أحــــــلام
شـــــــبلي

في ذكرى الغد: انطباعات ونبذة عن أعمال الفنانين المشاركين: محمد حرب، عارف مصالحة، منذر جوابرة

أحلام شبلي

جمعتنا معاً مؤسسة عبد المحسن القطان عبر مشروع التصوير الفوتوغرافي "في ذكرى الغد" بمبادرة وإدارة د. يزيد عناني، وبتنسيق السيد جوني قرط، فكانت تجربة دائرية ملهمة؛ إذ أُتيحت لي متابعة مسيرة هؤلاء الفنانين الثلاثة، والاستفادة في التقرب والوصول إلى اهتماماتهم وطرق تفكيرهم، حيث إن ممارساتهم الفنية أثرتني ومدتني أنا، أيضاً، بأفكار عديدة، جراء رؤية، وتتبّع، وقراءة نهجهم إزاء الوضع الحالي، ليس فقط الراضخ تحت وباء كوفيد-19، بل أيضاً جائحة الاحتلال المستمرة والمتزايدة. فالانكشاف لشدة حَدَسهم وأساليبهم المثرية في النظر إلى هاتين الجائحتين المتلازمتين، والربط بينهما بعيونهم الخاصة، ورؤيتهم المختلفة في التفاعل مع كليهما على حد سواء -الاحتلال الإسرائيلي لوطنهم ووباء الكوفيد-19 لناسهم وشعبهم- سمح لي من خلال ملازمة هذا المشروع، بالوصول إلى رؤياهم، والطرق التي يتعاملون بها عامة وخاصة مع واقعهم وأوضاع حياتهم، وإلى الطرق المختلفة التي يبتكرونها ويبدعون فيها في كيفية الارتباط بظروف معيشتهم.

مشروع مؤسسة القطان الذي بادر وشرع ثم سهّل لهذا النوع من التبادل، أتاح لنا جميعاً الاستفادة والربح من هذه التجربة، فاستفدت وتلقيت الكثير من التفاعل معهم في مشاريعهم ومنهجهم ومدى أخذهم وعطائهم للأشياء ومع الأشياء، ففتحت هذه التجربة عيني على رؤية الأشياء بتأنٍّ وصبر، حتى أتمكن من اكتشافها، وأيضاً التقدم في طرقي.

محمد حرب ينقلنا بمشروعه بين الحيز العام والحيز الخاص. كاميرته تجول شوارع غزة بحثاً عن لقطات تصور يوميات البائعين الساكنة في أسواق المدينة، ثم تنتقل إلى توثيق فعاليات عائلته وخصوصيتها. المشترك بين هذين الحيزين هو وجودهما تحت وطأتين؛ جائحة الكورونا والاحتلال الإسرائيلي. في الأول، ارتداء الكمامات من قبل من هم ليسوا بوظائف طبية هو الدليل الوحيد لجائحة الكورونا، وما يدل على خصوصية الزمان، أما خواء المساحات العامة من التجمهر فهو أمر معتاد في قطاع غزة الذي يهرم تحت ثقل الانتهاكات اليومية لكرامة الإنسان من قبل المحتل، والحجر الإسرائيلي لحيزها العام.

الحيز الخاص يمثل حالة رمزية لما يعرفه محمد حرب عن ميزات جائحة الكورونا، وهي ميزات اعتاد عليها يومياً منذ نشأته، فهي ذاتها ميزات الاحتلال. تقوم العائلة بتمثيل المشاهد المطلوبة الرمزية كي يستطيع الفنان أن يشاركنا ما يشعر به، وما آلت إليه أحوالهم. فيسمح لنا الفنان بالدخول إلى بيته، والاقتراب من أفراده. فنرى أطفاله يتنقلون بين الفن والإبداع والقفص، ثم يتحررون منه، وتبقى كمامات الكورونا عالقة به. إضافة إلى ذلك، يختار الفنان أن يصور أمه في سكونها تقرأ القران وهي مرتدية الكمامة. ربما هي الأم التي ترمز إلى فلسطين الراضخة تحت مصير الكورونا/الاحتلال من جهة، ومن جهة أخرى استعانتها بقدرة إلهية تعزز من صبرها. اختار محمد حرب الربط بين هذين الحيزين بحيز ثالث وهو المدرسة. هذا الحيز يشبه دور صورة الأم، فيشمل القريب والبعيد، يشمل الأطفال الذين يريدون التحرر، لكنهم يرضخون لأوامر الظروف الراهنة كما يفعل البائعون في الأسواق.

عارف مصالحة يختار التصوير الأنالوغي والفيلم الأسود والأبيض، ليس كاستراتيجية عمل، بل ليشبع رغبته وشغفه بتقنية التصوير هذه، والخوض في التفاصيل المتموجة بين هذين اللونين. ما يستحوذ على نظرنا عندما نعبر صوره، هو العلاقة المتأصلة بين الجهاز والإنسان. العلاقة هي الوقت والزمن. كثيراً ما نلاحظ في الصور الوقت المتبقي وحالة الانتظار. الأجهزة والساعة والإنسان الذي لا يدري - المُعالِج والمُعالَج، ثم الأكسجين والأزهار، كلها دلائل على وقت متبقٍّ قبل النهاية. يمكن القول إن هذه الحالة هي رمزية الوضع الفلسطيني في القدس الذي أصبح مقيداً إلى أبعد الحدود بالأجهزة الإسرائيلية التي تقرر استمرارية عيشه، ومدى هذه الاستمرارية ... الجسد الفلسطيني أصبح عاجزاً ومكبلاً ومرتبطاً بتنفسه بهذه الأجهزة، ولم يعد يستطيع الحراك. عارف مصالحة في صوره يمسك الموت في اللحظة القريبة من حصوله، ويدلنا على وهم الشفاء من هذا الاحتلال، فهو يرى الموت ويؤشر لنا عليه. أغلب الصور هي داخل غرف المستشفى، وتنتهي الأسماء وتُبدل بإشارات ويمنع الاتصال والتواصل، وتكون الوحدة والاختناق المتلازمات لهذه القطيعة المشبوهة بحالة الإعدام البطيئة لكنها حتمية. ثم يأتي الموت، وأيضا يأتي الشك بهذا الموت، فهناك حقائب مستندة إلى الحائط بانتظار حاملها، ولكنها، في السياق الفلسطيني، هي حقائب التهجير والإبعاد والإقصاء.

منذر جوابرة عَرَّفنا بشخصية المجهول الذي لا نستطيع أن نرى وجهه، أو نستدل على هويته. هذا الشخص هو إعادة صياغة رمزية، فهو يستطيع أن يكون في آن السجان والمُراقِب والحاكم والظالم، وفي آن آخر يكون الشافي والحارس والحامي والمُنقذ. تتبدل الألوان فقط. وهو أيضاً يمكن أن يكون الفلسطيني أو الإسرائيلي، فالمُراقب في نقطة العبور إلى بيت لحم، هو يمكن أن يكون رجل الاحتلال الإسرائيلي، أو رجل الأمن الفلسطيني، كلاهما يؤديان وظيفة واحدة تؤشر إليها الصورة التي يتكرر فيها هذا الشخص، ليصبح كمية تحجب الطريق، وتحجب الرؤية، فتصبح فيروسات الكورونا إشارات لمعنى هذا الحشد من السواد الذي يمنع العبور، وأيضاً بمقدرته أن يجرح ويؤلم، وربما يقتل الآخرين بشرائط الأسلاك الملتفة على ما يرتدون من ملابس. فتصبح جائحة الكورونا ما هي إلا رمز وإشارة لما يعانيه الفلسطينيون تحت وطأة السلطة والحكم، وتحت وطأة الاحتلال. فكلاهما يُقَيدان الحركة ويحجبان الانطلاق إلى الحياة الحرة والكريمة. تشتبك معاني الرموز حين يحول منذر جوابرة هذا الشخص الأسود إلى أبيض، لكنه لا يزال مجهول الهوية والاسم، ربما هو المنقذ الذي يحمل نبتة الياسمين التي تستطيع أن تزهر وتفوح رائحة أزهارها بقليل من الماء وقليل من الأمل رغم عن قدميه المكبلتين بالحجارة. وهنا، أيضاً، نقيض يحمله هذا الشخص المجهول، فهذه الحجارة قريبة وبمتناول اليد.

شــــــــروق
حــــــــــــرب

بعد مرور سنة من جائحة الكورونا، ما زلنا نحاول استيعاب الحالة الشاذة النابعة عن هذه الأزمة.

شروق حرب

في الأشهر الثمانية الأخيرة، قامت مؤسسة عبد المحسن القطَّان بتكليف بعض المصورين لاستكشاف أثر الجائحة على حياتنا اليومية الخاصة والعامة. لم تكن هذه المهمة سهلة، وتطلب ذلك معالجة العديد من المسائل والتحديات المرتبطة بالأماكن المتأثرة من الجائحة. كان من الصعب، أيضاً، توثيق تداعيات الجائحة على حياتنا بشكل يتجاوز "الأيقونوغرافيا" المرئية المتمثلة بلبس الكمامات، وفحص درجات الحرارة، وعمل فحوصات الـ(PCR).

سُررتُ كثيراً بالإشراف على عمل ثلاثة مصورين بارعين، وهم: إلياس حلبي (بيت لحم)، فارس أمين (رام الله)، رهاف بطنيجي (غزة)، الذين حاولوا توثيق هذه الحقبة الاستثنائية التي نشهدها سوياً. تتناول صور هؤلاء الفنانين جوانب مختلفة من الحياة الفلسطينية العامة في الفترة الحالية.

إلياس حلبي هو المصور الرسمي لكنيسة المهد في بيت لحم. منحنا إلياس إمكانية الوصول الخاصة إلى الاحتفال الديني الصغير والقاتم بعيد الميلاد المجيد العام 2020 في أوج الوباء. كانت بيت لحم خالية من أي سيّاح، بينما تواجه المدينة أزمة اقتصادية خانقة. يعرض إلياس مجموعة من الصور المرتبطة بالعاملين في القطاع السياحي، مع التركيز على المحال التجارية الصغيرة التي تضررت كثيراً من الجائحة.

من ناحية أخرى، يركز الفنان فارس أمين على قطاع المواصلات العامة في رام الله. فبعد تحول جامعة بيرزيت إلى التعلم عبر الإنترنت، والحد من إمكانية الوصول إلى جسر ألِنبي (الملك حسين) في أريحا نظراً للقيود المفروضة، عانى سائقو سيارات الأجرة في هذَين الخطَين [أي خط بيرزيت وخط الجسر] من ضائقة مالية كبيرة، وهم ينتظرون، بفارغ الصبر، تغير الأحوال. قام فارس بإنتاج مجموعة من الصور المعبّرة لهؤلاء الرجال أثناء انتظارهم في سياراتهم أو على الرصيف، إذ تتميز تلك الصور بإطلالات بانورامية تُظهر عدداً كبيراً من سيارات الأجرة الصفراء التي تنتظر لزبائن لفترات طويلة داخل المدينة.

من جانبها، تقوم رهاف بطنيجي بلفت انتباهنا للتغيير الحاصل في اللافتات العامة في شوارع غزة. التقطت رهاف في فترة الإغلاق الكتابات السياسية القديمة على الجدران ("غرافيتي")، والتي استُبدِلَت الآن بالخط العربي المزخرف المرتبط بقواعد الصحة العامة. تُعتبر صور رهاف وثائق مهمة تتعلق بالفضاء العام في غزة. كما تلتقط تلك الصور مشاعر الفراغ والعزلة بشكل مؤثر جداً، وتسلط الضوء على أماكن كانت مليئة بالناس في الماضي.